وجاء عيد الأم، بفرحته وبهجته، ووعده للأمهات بهدايا قليلة السعر عادة، ولكنها كبيرة القيمة في نفوسهن، إلى درجة لا تصدق، وقررت أن أخصص حصة التعبير لهذا الاحتفال لأتكلم قليلاً عما للأم من أفضال، علينا جميعاً، وبالمرة أتعرف على وجهات نظر الأولاد في هذا الموضوع
*******كتبت العنوان، بخط ثقيل وواضح على السبورة: عيد الأم.. وأنا أهيئ ذهني للكلام، ولكن ولداً مفعوصاً، يبدو أنه قرأ النصف الأول من العنوان فقط، وقف فجأة وهتف بي بمنتهى العصبية: بس لسه بدري قوي على عيد الأضحى يا أستاذ
فالتفتّ إليه في دهشة، وأنا أضغط على كلماتي: وهو فيه حد جاب سيرة عيد الأضحى يا ابني؟ أنا باقول عيد الأم.. الأم يا ابني.. الأم
فنظر نحوي ومط شفتيه، وكأنه لم يقتنع، وهم بقول شيء ما ولكنه عاد فرجع في كلامه، وجلس وهو يرمقني تارة والسبورة تارة أخرى
*******وتنهدتُ، بداية غير مبشرة، وعدت أكتب عناصر الموضوع.ز وبعد أن انتهيت، التفتُ إليهم، وحاولت رسم ابتسامة متفائلة على وجهي، وأشرت لعنوان الدرس وأنا أسألهم: عارفين النهارده يوم إيه يا ولاد؟
ـ أيوه طبعاً
ـ يوم إيه؟
ـ الخميس ياأستاذ
تمالكت نفسي، وعدت أقول لهم بمنتهى الهدوء: مش قصدي يوم إيه من أيام الأسبوع، قصدي مناسبة إيه النهارده؟
ـ مناسبة إيه يا أستاذ؟
ـ عيد الأم يا إخوانا.. عيد الأم.. ده حتى العنوان مكتوب على السبورة.. عيد الأم
ـ يعني أمهاتنا هيدونا العيدية يا أستاذ.. يا حلاوة
وكـدت أصاب بالفالج، ولكنـي تمالكت أعصابي، وأنا أقول لهم: لا يا شباب.. العيد ده.. احنا اللي مفروض فيه نقول لأمهاتنا كل سنة وهم طيبين.. ونقدم لهم هدية رمزية بسيطة تعبيراً عن حبنا وشكرنا للي بيعملوه علشانا
ـ وده لازم يعني؟
ـ يا ابني دي مجرد كلمة رقيقة.. وشعور طيب ناحية والدتك واللي مفروض مايكونش اليوم ده بس وإنما طول السنة
ـ أيوه، يعني هنستفيد إيه يعني؟
ـ هنستفيد إننا هنفرّح أمهاتنا.. ونحسسهم بالسعادة.. مش كفاية؟
ـ وتفتكـر ده ممكن يأثر على زيادة المصروف ياأستاذ؟
فنظرت نحوه في غيظ، وأنا أحاول تمالك أعصابي وتذرعت بالصبر وأنا أقول: مش لازم يكـون له تأثير يا ابني.. دي حاجة معنوية
ـ معوية ازاي يا أستاذ؟
ـ معنوية ياحبيبي مش معوية.. معنوية.. يعني حاجة صادرة مـن القلب.. بدون ما يكون وراها مصلحة شخصية
ـ طيب بلاش الفلوس.. يعني الموضوع ده هيزودنا في الدرجات؟
ـ لا يا حبيبي.. مش هيزودك في الدرجات.. لكن زي ما قلت لك ده هيزود رصيدك من الحـب في قلب والدتك
ـ رصيد؟ بس أنـا مـاليش دفتر في البوستة يا أستاذ
*******وارتفع اللغط فجأة، وأحسست بالكلمات تتطاير، من هنا ومن هناك، ويبدو أن الجميع غير مقتنعين بما أقول، وغير قادرين حتى على هضمه بأية حال، أو تصوره، وأحسست بالتعب وبأنـي أحارب في معركة خاسرة، ووقفت طالبة فجأة وقالت لي: يعني إيه المطلوب مننا بالظبط ياأستاذ؟
قلت: يابنتي أنا مش بافرض عليكم حاجة.. كل اللي باحاول ألفت انتباهكم ليه.. هو كلمة طيبة.. تقولوها لأمهاتكم النهارده بس مش أكتر
حاضر.. حاضـر يا أستاذ.. بس ماتزعلش نفسك إنت -
والتفتت إلى باقي التلاميذ، وصاحت بصوت عالٍ "مسرسع" وآمر: خلاص يا إخوانا، ماتكبروش الموضوع وماتحيروش الطاسة.. كـل الحكايـة بُقّين.. رشوهم على الفاميلي.. لما تروحوا وخلصنا
وجلستْ فجأة، كما قامت فجأة، وأنا أنظر نحوها في ذهول من هذه اللغة الراقية التي استخدمتها، ومن تخيلها للموضوع، ومن حسمها للنقاش بهذه الكيفية، ولكني لم أملك إلا أن أتجاهلها على مضض، وأعود للمحاولة اليائسة لكي أشرح لهم عناصر الدرس
*******وفي اليوم التالي، بعد طابور الصباح، وجدت أحدهم يناديعليّ بصوت عالٍ، ويجري ناحيتي، فتوقفت، وعرفته.. واحد من القلائل المحترمين من طلبتي، وضع يده في يديبقوة، وشد عليها، ثم أخرج من جيبه "كارتاً" وقلماً أحمر ووضع كل ذلك في يدي، وهو يقول بحماس وانفعال وفخرووجهه يزداد احمرارا في كل لحظة: كل سنة وحضرتك طيب بمناسبة عيد الأم يا أستاذ
وتركني وهرول، قبل أن أرد عليه، وعلى الكارت وجدت هذه الكلمات
إلى أمي الأستاذ حسام.. كل سنة وإنت طيب يا أمي وأستاذي وكل شيء لي في الحياة
وتأكدت ساعتها أن كلامي عن عيد الأم قد أتى بنتائج باهرةباهرة
باهرة
*******